لك الحمدُ بعدَ الحمدِ لله واجبُ
فمنْ عنده تُرْجَى ومنك المواهبُ
وطاعتكمْ منْ طاعة الله لم يزلْ
لها منهجٌ يَهْدي إلى الحقّ لاحب
وما زلتَ للإسلامِ والدِّين حُجَّةً
وعزّ حمًى للمسلمين وجانب
وساعدهم فيما يشاءون دهرُهم
فقد يُسِّرَتْ للطالبين المطالب
وقد أدرك الرَّاجي بحضرتك المنى
وقد أُحْضِرَتْ آماله والمآرب
جلبتَ له الأَمواه حتَّى تفجَّرَتْ
مشارعُ منها جَنَّةٌ ومشارب
لكلِّ امرئٍ فيها من الماءِ قِسْمَةٌ
وشربٌ كما كانت لقحطانَ مأرب
مواردُ أَضحى القَيظُ حيث تَبَجَّسَتْ
ربيعًا وآضتْ كالشمال الجنائب
فرقَّتْ وراقت حولها كلُّ صنعةٍ
يناسبها زَهْرُ الرُّبى وتناسب
مصانعُ فيها أغرب الجودُ والندى
فما اسْتُغْرِبَتْ من بعدِهِنَّ الغرائب
سمتْ وسطها بيض القبابِ وأَحدقت
قبابٌ بها من سندسٍ ومضارب
قبابٌ من الدوحِ المنيف تهدّلت
لهنّ أعالٍ بالحيا وجوانب
عَلَتْ وضَفَتْ أَطنابها فتهدَّلت
على صَفَحاتِ الماءِ منها هَيَادب
تبلج في شرقي جامع تونس
بهنَّ ضياءٌ يملأُ العينَ ثاقب
وأَشْرق نورُ الحسن منه بمشرق
فما نوره بعد التطلع غارب
أُقيمتْ عليه من رخام ومرمر
قسيٌّ أَقامتها الأَكفُّ الدَّوارب
قسيّ قد اصطفَّتْ فراقَ انتظامُها
كما راقَ نظمُ اللؤلؤ المتناسب
وَزينَتْ بأَلوانٍ تَروق كما اكتستْ
بأَوشيَة الزهر الرياضُ العوازب
لقد جاءَ عصرٌ فيه قُدِّرَ كونُها
بما قَصَّرتْ عند العصور الذواهب
ولم تُهْدَ أَمْلاك الزمان لما اهتدت
من الرُّشد آراء الأَمير الصوائب
تداعى إليها الناسُ من متعجبٍ
وداعٍ ومُثنٍ بالذي أنتَ واهب
تَوَارَدُ أيديهِمْ عليها كأنَّها
ورودًا قطا البيدِ الظماءُ الشوارب
وتصدر عنها مُتْرعاتٍ سجالها
كما صدرت عن راحَتَيْكَ الرغائب
مياهٌ كسلسالِ الرُّضاب يحفُّهُ
رُخامٌ لمبيضّ الثغور مُناسب
فكم أَبيضٍ ما شَانَهُ لونُ كُدْرَةٍ
على أَزرقٍ ما كدَّرته الشوائب
وما بينَ ما قَدْ سالَ في الحسنِ منهم
وما لم يَسِلْ إلاّ مدًى متقارب
تساوى بسيطٌ منها ومركَّب
صفاءً بدا في الحسنِ عن ذاك نائب
فتحسب أن الذائباتِ جوامدٌ
وتحسبُ أَن الجامدات ذوائب
تحسَّنت الدُّنيا بكم فكأنَّها
عروسٌ عَروبٌ في المنصَّة كاعب
وكم حَرَمٍ في ظلِّ عدلك آمنٍ
لذروته تُحْدَى القلاصُ النجائب
مقامٌ حكت دارَ المقامة داره
فما شابَ فيها خالصَ العيش شائب
تحطُّ بها الآمال حين تؤُمُّهُ
وإن هي آبتْ أثقلتها الحقائب
فأصبح فيها الناس في خير عيشةٍ
تُثِيبُهم الدُّنيا وليست تعاقب
يسحُّ عليهم كلَّ يومٍ وليلةٍ
وليٌّ وَوَسْميٌّ من الجود ساكب
فقد أَمَّها الأُمَّالُ من كلِّ وجهةٍ
وحُثَّتْ بهم قصدًا إليها الركائب
فقَرُّوا وقرُّوا أعينًا حينَ عَرَّسوا
بدارٍ نأتْ عنها النَوَى والنوائب
وحسَّنها جودٌ يسيلُ ونائِلٌ
وحصَّنها رُمْحٌ يصولُ وقاضب
وطوَّقها جودُ الأَميرِ قلائدًا
تحلَّتْ بها أَجيادُها والترائب
فكم أَحدقت من روضةٍ وحديقةٍ
بها لذيولِ السحبِ فيها مساحِب
وتلك العقود المحدقات بجيدها
حدائقُ للأَحداق فيها عجائب
وكم سَرْحَةٍ فيها تحلَّتْ بزهرها
كما تتحلَّى بالجُمان الكواعب
وَمَوْلِيَّةٍ فيها تصيح بلابلٌ
وَمَوْشِيَّةٍ فيها تسحُّ مذاهب
يروقُك أَيْكٌ حولها متجاورٌ
يشوقك طيرٌ فوقها متجاوب
فأَضحتْ تَناغَى فوقهنَّ سواجعٌ
وقد طالَ ما صَرَّتْ بهنَّ جنادب
وكم قد سطرتم حولها من كتيبة
كما نسَّق الأَسطار في الطرس كاتب
فتُعْزَى إلى أيوبَ أوقى دروعِهِمْ
ولم يعزُها يومًا لِدَاوُودَ ناسب
تغصّ بها الهيجاء طورًا وتارةً
تغصُّ ميادينٌ بها وملاعب
حميتَ ذِمارَ المسلمين ولم تزلْ
تُطاعِنُ عنْ دين الهدى وتضارب
بِكُلِّ قناةٍ تقتري عَلَق العدا
وكلِّ حسامٍ منه تَدْمَى المضارب
ومجر حَديدٍ طالما ظللته من
بنودٍ ومن نقعٍ وطيرٍ غياهبُ
وتحت مُثار النقْع آساد غابةٍ
لها من نصولٍ سمهريٌّ مغالب
ضراغمُ هيجاءٍ يهونُ لدى الوغى
عليها صداها حين ترْوى الثعالب
كماةٌ أطالوا ألفة البيضِ في الوغى
فشابَتْ ظبًا منها ومنهم ذوائب
قد ادَّرعوا فوق الدروع قلوبهم
وصبرَهُمُ والصبرُ نعمَ المصاحبُ
وكيف بأَن تُخْطِي المَقاتلَ سُمْرُهم
وقد سدَّدتْهُنَّ الأَكفُّ الدوارب
وقد قويت أيدٍ لها وسواعدٌ
كما قويتْ أَعضادها والمناكبُ
تريك القَنا رقطًا إذا ما نصَبْتها
إلى الطَّعن فهي الراقطات النواصِب
قنا موجباتٌ ما سلبن عن العدا
لعلياك فهي الموجباتُ السَّوالب
سماكمْ سماءٌ للعُلا ووجوهكم
شموسٌ وأَقمارٌ لها وكواكب
وقُدْتُمْ جيوشًا للمهابة بأْسُكُمْ
دروعٌ وخرصانٌ لها وقواضب
وكم معقلٍ دارتْ عليه جيادكُمْ
وأوفتْ كما أَوفى على العين حاجب
وكم سَبسبٍ أَضحى بها وهو عامرٌ
وكم عامرٍ غادرن وهو سباسب
لقد غلبَ الأَعداءَ مَلكٌ مؤيّدٌ
تسامت بعلياه عَديٌّ وغالب
إمامٌ سعيدٌ جَدُّهُ مثلُ جَدِّه
فذا غالبٌ حقًّا وذلك غالب
سليلُ الرضا المنصورِ يحيى الذي سمتْ
مراقٍ إلى العليا به ومراقب
إلى أَبَوَيْ حفصٍ نَمَتْهُ أَرومةٌ
تسامتْ لها في المعلُوات مناصب
هُمامٌ ببشرى النصر والفتح لم تزلْ
تسيرُ له كتْبٌ وتسري كتائب
عقيدُ الندى للجود غادٍ ورائحٌ
وحِلف التقى في الله راضٍ وغاضب
ومستقبل الإِقبال واليُمن في الوغى
ومنصرفٌ بالنصر والفتحِ آيب
ومُبتسمٌ في يَوْمَي البأْس والندى
أَبى أَنْ يُرى في حالةٍ وهو قاطب
يزيد محيَّاه سنًا وطلاقةً
إذا ما غدا وَجْهُ الضُّحى وهو شاحب
وقد أَلفَ الهيجاءَ حتَّى كأنَّها
له وطنٌ والنصر جارٌ مصاقب
صدور عواليه مطالع أَنجمٍ
لها في صدور المعتدين مغارب
وأكثرُ ممَّا قاده من مقانبٍ
خلالُ جلالٍ حازَها ومناقب
مراقٍ من العلياء والملك ما ارتقت
إلى مثلها شُهْبُ الدُّجى والأَشاهب
أَفاضَ نداه مُغْنِيًا عن سُؤاله
فما عزَّ مطلوبٌ ولا ذلَّ طالب
وجلى هُداهُ ليلَ كلِّ ضلالةٍ
فلم تَدْجُ من ليلِ الضَّلالِ غياهب
نجومُ هدًى تجلو الدُّجى ما لِنُورها
غروبٌ وأَنوار النجوم غوارب
وسُحْبُ ندًى تشفي الصدا ما لمثلها
نضوبٌ وأَمواه السحابِ نواضب
وما باعَدَ الأَعداءَ عن هَدْيِهِ سوى
نفوسٍ أضلَّتها الأَماني الكواذب
وقرَّب منه المهتدين هداهمُ
ففازوا بما خابَ العدوُّ المجانب
طباعُ هدى فاقتْ طباعَ ضلالة
ومنجذبٌ كلٌّ لما الطبعُ جاذب
وما المرءُ في أَفعاله غير دافِعٍ
لما يقتضيه طبعُهُ والضرائب
ولو لم يكنْ بين الطباع تخالفٌ
لما اختلفتْ في العالِمين المذاهب
ورى قَدْحُهُ في العقل والقول فاغتدى
بأنجح قِدْحٍ فيهما وهو ضارب
ففي صدره بحرٌ من العلم زاخرٌ
وفي كفِّه غيثٌ من الجود ساكب
فمَنْ يورِ زندًا أَو يُفِض في رجائه
فما قَدْحُهُ خابٍ ولا القِدحُ خائب
أَفادتْهُ في سنِّ الشَّباب من النهى
بصيرتُه ما لم تُفِدْهُ التجارب
ويهديه نورٌ للبصيرة لم تكنْ
لتهدي كما يهدي النجوم الثواقب
تفتّح في القرطاس يُمْناه فوقَ ما
تفتّح في الروض السحابُ السواكب
فكم فضَّ أَبكارَ المعاني خطابه
فأَضْحَتْ به الأَفكار وهي خواطب
وجودٌ له قد فاقَ مَعْنًى ومنطقٌ له
فاقَ معنًى لفظُهُ المتناسب
فإن أجتلب شعرًا إليه فإنَّني
إلى هجرِ تمرًا كما قيل جالب
أَمُطْلِعَ أَنْوار الهدايةِ بعدما
تَوارى سناها وادلهمَّتْ غياهب
سَميّ رسولِ الله لا زلتَ ساميًا
ولا زلتَ منصورًا على من تحارب
ولا زالَ أمرُ الله أَمرَك تعتلي
له درجات في العلا ومراتب
0 تعليقات