الفصل الرابع
«في القصر الملكي، في غرفة العرش، غرفة مطلة على البحر. كليوباترا متكئة على حافة الشرفة، شرميون وهيلانة في أقصى الحجرة تنهمر من عينيهما الدموع»
كليوباترا (كأنما تناجي نفسها):
نام «مَرْكُو» ولم أنَمْ
وتَفرَّدتُ بالألم
ليت جُرحي كجُرحه
لَقِيَ الموتَ فالتأم
قاتلَ اللهُ ماضيًا
قَتَل المُفْرَدَ العَلَم
أنطوانُ انفُض الكرى
ساعةً وانقُل القَدم
قم كأمس اغنَم الهوى
واشرب الراحَ بالنَّغم
وتَخَيَّرْ على المُنَى
وتَمَتَّع من النِّعم
واغمرِ الأرضَ بالقنا
وتَغَلَّبْ على الأمم
وقُد الخيلَ في الوِها
دِ ووثبًا إلى القِمَم
أيها العين أبصري
إنما كنت في حُلُم!
(ملتفتة إلى شرميون):
يا شرميون بلغنا موْقفًا حَرجًا
لا الرأيُ ينفعنا فيه ولا الباسُ
لم يَبْقَ ثَقبُ رجاء كنت ألمحُه
إلَّا تَعرَّضَ حتى سده الياسُ
(تلقي نظرة على الإسكندرية من الشرفة)
نجمي يُحدِّثُني بوشْك أُفوله
إسكندريةُ، هل أقولُ وداعا؟
وَشَّيْتُ بَرَّكِ جدولًا وخَميلة
وكسوْتُ بَحْرَك عُدَّةً وشراعا
وأنا اللَّباةُ وقد ملأتُك غابةً
وأنا المَهاةُ وقد ملأتُك قاعا
قد خفتُ من بَعدي عليك ممالكًا
يُطلقنْ فيك الفاتحين سباعا
يأتين زرعَك بالرِّياح عواصفًا
ويَجئنَ ضَرعَك بالذئاب جياعا
فإذا الحضارةُ بعد طول بنائها
قد دُكَّ ركنُ بنائها وتداعى
شرميون:
بإيزيسَ سيدتي بالوَلاءِ
بطول التعاشُر والمُصطحَبْ
بمالي ببابك من خدمة
ومن صُحبة تُشبهان النَّسب
على أي وجهٍ أدَرْت المَصيرَ
وقَلَّبت رأيَكَ في المُنْقَلب؟
فهذا السكونُ يُثيرُ الشكوكَ
وهذا الهدوءُ يُثيرُ الرِّيَب
وماذا اعتزمت؟ وماذا كتمت؟
أبِيني فما بيننا من حُجُب
ولي في حياتك رأيٌ يُساقُ
وليس عليَّ إذا لم يُصَبْ
كليوباترا:
إذن فاذكري أن خصمي العتيد
يخاف انتحاري ويخشى الهرب
وليس الذي يَشتهي لي الحياةَ
ولكن له في حياتي أرَب
له في غد مَوْكبُ الفاتحيـ
ـن إذا أقبلوا في جلال الغَلَب
يَجرُّون في رومةَ الأرجوانَ
وقد بَرَزتْ في الثياب القُشُب
وتزدانُ بالغار هاماتُهم
إذا ارتفعت في الخميس اللَّجِب
يُحاولُ قيصرُ مني المُحالَ
ويذهب في غير وجه الطلب
يريدُ ليَعرضَني في غد
على شعب روما كأَني سَلَب
ويفضحُ مصر وسلطانَها
وتاجَ العصور وعرشَ الحقَب
لقد ساء تدبيرُ أكتافيوسَ
ولم يَلْقَ من خُدعتي ما أحب!
(تسمع وطء أقدام)
ماذا وراء الباب؟
شرميون:
حسُّ قادِم
هيلانة:
أجلْ دبيبُ حارس أو خادم
كليوباترا:
بل حارسٌ جافٍ
من حَرَس القصر
مُعربدُ الخَطْوِ
من نشوة النصر
لا تسعُ الأرض
رجليْه من كِبرْ
شرميون:
ملْكتي دَعي
هذه الفِكَرْ
جندُ رومةٍ
يَعْبُدُ البدَرْ
في سبيلها
يركَبُ الغَرَرْ
كليوباترا:
شرميون صَهْ
إنه حَضَرْ
(يدخل حارس)
الملكة:
ماذا وراء الجندي؟
الحارس:
رسالة من عبد
هل تأذنين؟
الملكة:
أدِّ
الحارس:
أيها الْمَلْكَةُ قد جا
ء إلى القصر غلامْ
في ثياب الحقل حلو الـ
ـشكل ممشوق القوام
جادل الحُرَّاسَ في حذ
قٍ ورفق بالكلام
يَدَّعي أن أباه
كان عبدًا للمَقام
ناله بستانُ تين
من أياديك الجِسام
فهْوَ يُهدي لك باكو
رتَه في كل عام
الملكة (هامسة):
شرميونُ ذاك حابي
وجَناه في يمينهْ
جاءَ في الميقات يُهدي
ليَ باكورةَ تينه
(للحارس)
ألا تَقْبلُ يا حار
س مني هذه البَدْرهْ؟
الحارس:
بشكران وهيهات
على الشكران لي قُدْرَهْ
الملكة:
والآن لو تُحْضِرُ لي الفلاحا
لعله يُحدث لي انشراحا
إني نسيتُ البَسْطَ والمزاحا
الحارس:
عليَّ السمع والطاعهْ
سآتيك به الساعهْ
(يخرج الحارس)
الملكة:
يا شرميونُ تعلَّمي الدنيا ويا
هيلانةُ اختبري الزمانَ القاسي
إن التي حُرستْ بأبطال الوغى
باتت تُصانعُ سفْلَةَ الحراس
(يدخل حابي في ثياب فلاح ومعه الحارس)
هيلانة (همسًا):
حابي، نعم حابي وتلك نظرتُهْ
وهذه مشيَتُه وخَطْرَتُهْ
يا ليت شعري ما تكون سَلَّتُهْ؟
حابي:
تحيةٌ للمَلكهْ
ونعمَةٌ وبَرَكَهْ
ونفسُ عبدِها لها
وكلُّ ما قد ملكه
سيدتي جئت إلى
بحرك أُهدي سمكه
أحملُ تينا ولو اسـ
ـطعتُ حملت مملكهْ
حابي:
سيدتي
الملكة:
أُدنُ فإنه ابتعدْ
وقُلْ فما يسمعُ غيرنا أحدْ
حابي:
سيدتي
الملكة:
حابي، أنوبيسُ اجتَهَدْ
لنا وأنجز الغداة ما وعدْ!
يُريدُ أن يَشفيَني مما أجد
وأن يَقي مملكتي عارَ الأبد
جئتَ كما يأتي لوقته المَدَد
وَفَيْتَ لي حابي ولم تكنْ تَفي
ضع السِّلالَ وانصرفْ لا بل قفِ
حتى ترى كيف يكونُ مَوْقفي
(تلقي نظرة على السلال)
ما لي مُلئتُ من المنيَّة رهبةً
إن المنيةَ في رقاب الناس
آسى الجراح جَزعتُ عند لقائه
والنفسُ تَجزعُ من لقاء الآسي
إني طويتُ بساطَ كل مُدامة
لم يبقَ إلا شربُ هذي الكاس
يا خادميّ بل ابنتيّ تلطفًا
في البحث حتى تأتيا بأياس
فعسى يُغنِّيني نشيدَ الموت أو
نغمًا أجود عليه بالأنفاس
شرميون:
مَلْكتي نادي أياسًا
إنه بالقُرب منك
هو في المقصورة الأخـ
ـرى مع الباكين يبكي
فكُره فيك ولا يَجـ
ـسُر أن يَسألَ عنك
الملكة:
يا وَيحَ صَحبي بَعد طول سرورهم
قعدوا إلى أحزانهم يبكونا
جيئي بهم يا شرميونُ لينظروا
جَلَدي فيَهْدَأ بعضُ ما يَجدونا
(تخرج شرميون)
كليوباترا (تنحني على زنبقة في أصيص):
زَنبقةٌ في الآنيهْ
ضحيَّةُ الأنانيهْ
جَنَتْ عليها غُرْبَة الأسـ
ـر الأكُفُّ الجانيهْ
وبُدِّلتْ من سَعة الرَّ
بْوَة ضيقَ الباطيهْ
يَسقونها من جَرَّة
بعد العيون الجاريهْ
يا جارتا شأنك لا
يُشْبهُ إلا شانيَهْ
لم يبق من مُلكي العريـ
ـضِ غيرُ دار خاويهْ
وكلُّنا ذابلةٌ
عما قليل ذاويهْ
زال النعيم وفرغنا
من حياة فانيهْ
(ترجع شرميون ومعها أياس وأنشو وغيرهم)
الملكة (إلى أنشو):
أنشو يَعزُّ عليّ أنك ساهمٌ
يبدو عليك الهمُّ والتفكيرُ
أنشو ألا قَوْلٌ يَسُرُّ وضحْكةٌ
إن السعيدَ الضاحكُ المسرورُ
قد كان أيسرُ ما صنعتَ يسرني
أعَلَى سروري اليوم أنت قدير؟
أنشو:
سيدتي جرى بما
فيه سرورُك القدرْ
من لا تسرُّه السما
ءُ لا يسره البشرْ
الملكة:
أياسُ، هل من صوت؟
غَنِّ نشيدَ الموت
(أياس يغني هذا النشيد)
يا طيبَ وادي العدَمْ
من منزِل من منزل
لم تَمش فيه قدمْ
للعُذَّل وادٍ خَل
أنا فيه لحبيبي
وحبيبي فيه لي
***
يا موتُ ملْ بالشِّراعْ
واحملْ جَريحَ الحياهْ
سرْ بالقلوع السِّراع
إلى شُطوط النجاهْ
***
شراعُك الفضِّي
في لُجَّه التِّبْري
كالحُلْم في الغَمض
يجري ولا يجري
***
في ظل ليل ساجْ
أقسم لا يَسري
مُغلَّل الديباجْ
مُطيَّب السِّتر
***
في يقظةٍ يَظهرْ
لي أم أرى حُلْمَا
فُلْك من الجوهر
يَخترقُ الظَّلما
***
على الدجى لَمَّاح
تَحسَبُهُ نجما
ليس به ملَّاح
يسلُكه اليمَّا
***
أضْوَى من الفجر
في ظُلمة الأسدافِ
من نفسه يجري
لم يُجره مجداف
***
مَدَّ شراعَ النورْ
يا حُسنَ ما مدَّا
كاللؤْلؤ المنثور
لو يَنَفح النَّدَّا
***
يا لك من زوْرقْ
مَلّاحُه الأقدارْ
ينجو به المُغرَقْ
من لُجة الأكدار
(يدخل الحارس)
الملكة:
ما وراء الحارس؟
الحارس:
الطا
عة يا ذاتَ الجلالهْ
قائد يحملُ من قيـ
ـصرَ أكتافو رسالهْ
الملكة:
أدخله، ادخلْ
رسولَ قيصرْ
(يخرج الحارس ويدخل القائد)
القائد:
قيصرُ العالي إلى
سيدتي يُهدي التحيهْ
هو في الثُّكنة بالقر
ب من الدار السنيهْ
يُظهرُ العَطْفَ عليها
وهي بالعَطف حَرِيَّهْ
ويقولُ الأمرُ ما تأ
مُر في الإسكندريهْ
ولها الوادي وما يحـ
ـملُ مُلْكًا ورعيَّهْ
وبنوها يَرثون الـ
ـمُلكَ من روما الوصيهْ
وإذا حَلَّت بروما
وجدت روما حَفيَّهْ
تتلقَّاها كأعلى
درة في القيصريهْ
ما الذي تَقتَرحُ الملْـ
ـكة ما تُملي عَليَّهْ
لتقلْ سيدتي حا
جتهَا تُقْضَ العشيَّهْ
كليوباترا (كأنما تناجي نفسها):
وإذا حلت بروما
وجدت روما حفيهْ!
تتلقاها كأغلى
درة في القيصريهْ!
(تضحك في تهكم وألم)
أيها القائدُ أدَّيْـ
ـتَ فأحسنتَ الأداءْ
بَلِّغنْ قيصر عني
كلَّ شكر ودُعاء
ثم زدْ أمنيةً قد
بَقيَتْ لي ورجاء
أنا لا أكتُمُهُ ما
سَرَّ من أمري وساء
ليَ سرٌّ كاد عن نفـ
ـسيَ يَزويه الخَفَاء
صُنته عن صاحباتي
وصحابي الأمناء
حبذا لو زارني قيـ
ـصرُ في هذا المساء
وله الشكرُ إذا لم
يأت أو إن هو جاء
القائد:
سأذكرُ مولاتي لمولايَ قيصرٍ
وأنقُلُ ما أبديتِ من رَغَبَات
ولمْ لا يُلبِّي دعوةَ الحسن طائعًا
ويسعى لهُ مستعجلَ الخطوات؟
وقد كان يوليوسٌ يقومُ ببابه
ويَمثُلُ أنطونيوسُ في العَتَبات!
كليوباترا (بعظمة):
أسأتَ أخا الرومان فهم
القائد:
إذن فَهبي لي تلك من هَفَواتي
(يخرج القائد)
كليوباترا:
أرانيَ لم يُحْسنْ إليَّ مُعاصري
ولم أجد الإنصافَ عند لداتي
فكيف إذا ما غيَّبَ الموتُ ذَادتي
وبَدَّد أنصَاري وفَضَّ حُماتي!
كأنيَ بعدي بالأحاديث سُلِّطت
على سيرتي أو وُكِّلتْ بحياتي
وبالجيل بعد الجيل يَروي زخارفًا
فمن زور أخبار وإفك رُواة
يقولون أُنثى أفنت العمرَ بالهوى
بهيميَّةٌ اللذات والشهوات
فدًا لغرامي بالرجال وحُسنهم
غرامُ الغواني أو هوى المَلكات
فليس الغلامُ البارعُ الحسن فتنتي
ولا الرائعُ الأجلاد والعضَلات
ولم يَسْتَثِرْ وَجدي من الروم فتيةٌ
جُنونُ العذارى فتنةُ الخَفِرات
ولا كلُّ غصن من بني مصرَ مائل
يَطير إليه قلبُ كل فتاة
يموتون بي عشقًا ويَشقَون بالهوى
فكم من حياة في يدي وممات
ولكن عشقتُ العبقريَّةَ طفلةً
وفي الغافلات البُلْهِ من سنواتي
كلفتُ بكهل أحرز الأرضَ سيفُه
وحيزتْ له الدنيا من الجَنَبات
إذا هبَّ من غرب البلاد تَلفَّتتْ
بلادٌ بأقصى الشرق منذعرات
تَعَثَّرَ حظي بعد طول سلامة
وأقلع نجمي بعد طول ثبات
ومن يَمش في وَرد الأمور وشَوكها
يَعُدّ الخُطا أو يحسب العثرات
(تنظر إلى السلال)
يا مرحبًا بالسَّلَّهْ
والرُّقُب المُطلَّهْ
الكافياتي الذِّلهْ
(ينسحب الجميع مطرقين ما عدا الملكة ووصيفتها وحابي)
كليوباترا:
ادخلي بي يا شرميون على طفْ
ـلي أُودِّعْهُمُ الودَاع الرهيبا
فعساهم إذا تحجَّب صدري
وجدوا صَدركِ الحَفيَّ الرحيبا
(لحابي وهيلانة)
ولديَّ اهجرا القصورَ فإني
قد وجدتُ النعيمَ فيها غريبا
ولها ضجةٌ وفيها فُضولٌ
يُرهقُ الحبَّ واشيًا ورقيبا
خلِّيا عنكما المدائنَ يا ابْـ
ـنيَّ فضوْضاؤها تُميت القلوبا
إن لي في سهول طيبَةَ حقلًا
طيِّبَ الماء والهواء خصيبا
غَرستْه يد الشباب فأضحى
وارفًا كالشباب حُسنًا وطيبا
ألَّف الحبُّ من نواحيه أيْكا
جمع الطيرَ هاتفًا ومُجيبا
يُسمعُ البُلْبُلُ العشيقةَ فيه
وتُغنِّي الأليفةُ العَنْدليبا
أفُقٌ لا يٌظلُّ إلا مُحبًّا
وثرى لا يُقلُّ إلا حبيبا
اشربا من كرومه واسقياها
صافيَ الحب والهوى المسكوبا
والعبا عند كلِّ ماء غدير
تريا الماءَ للحَباب لعيبا
وسلا الوردَ هل تَنَفَّسَ في الور
د وهل ناسم البعيدُ القريبا
أدرِكا لذةَ الشروق ولمَّا
تبلغ الشمسُ بالحياة الغروبا
(تخرج كليوباترا وشرميون)
حابي:
هيلانُ، هذا مقالُ النصح من مَلك
فما تَريْن وما تَنْوين هيلانا
هَلُمَّ طيبةَ ننزلْ في خمائلها
ونَبْن مثلَ بناء الطير دُنيانا
كطائريْن على بحر وعاصفة
قد آنسا من وراء الشَّط بستانا
تداركتْنا أبرُّ المالكات به
وأشرفُ الناس إحساسًا ووجدانا
هيلانة:
حابي، عرفتَ الخلال
وكنتَ أمس أقلَّ الناس عرفانا
حابي:
خلِّي الجفاءَ حياتي إن ساعتَه
مضتْ وهذا أوانُ السِّلم قد آنا
اللهُ يشهدُ أني قد سدلتُ على
ما كان من نَزَعات الرأي نسيانا
وأنني اليوم أبكيها وأندُبُها
ولا أقيسُ بها في الطهر إنسانا
اليوم ضحَّتْ وزَكَّاها الفداءُ كما
زكى المُقرِّبُ باسم الله قُربانا
هيلانة:
إن التي شب في نَعمائها صغَرى
ونبَّهتْ لي في سُلطانها شانا
إن لم أمُتْ دونها أو لم أمت معها
فما جَزَيْتُ عن الإحسان إحسانا
حابي:
والحبُ هيلانَ؟ ماذا
هيلانة:
إن الصداقة فوق الحب أحيانا
حابي أراها أزْمَعَتْ
وأرى الفجيعةَ واقعهْ
فاذهبْ فِجِئْ بأنوبسٍ
فعسى يردُّ الفاجعهْ
حابي:
وسواءٌ أردَّها
أم أبى ذلك القدر
في غد أيها الملَا
كُ إلى طيبةَ السفر
(يخرج حابي)
هيلانة:
ويح حابي اعتقادُهُ
أن سأحيا فنلتقي
ليتني نلْت قُبلةً
منه قبل التفرُّق
(تدخل كليوباترا وفي أثرها شرميون)
كليوباترا:
بروحي وإن لم تَبْق مني بقيَّةٌ
صغارٌ ورائي ذُوَّقُ اليُتم نُوَّحُ
أذوبُ لبلواهم وأعلمُ أنني
حَمَلتُ عليهم ما يَجلُّ ويَفْدَح
وقد أشتهي عيشَ الذليل لأجلهم
فلا المجدُ يَرضى لي ولا النُّبلُ يَسمَح
فصفحًا صغاري إن شَقيتُم بمصرعي
وإني لأرجو أن تَغضوا وتصفحوا
وَداعًا صغاري صَيَّرَ الله يُتمكم
إلى خير ما يكفي اليتامى ويُصلح
أطفتُ بكم والنومُ تسري سناتُه
على صفَحات كالأهلَّة تَلمَحُ
وما منكُم في الخزِّ إلا حمامةٌ
عليها طليلٌ ناعمُ الفرع أفيَح
تنامُ وما تدري الكرى ما وراءه
ولا الصبحُ في ظلِّ الرُّبا كيف يُصبح
أتغدو على الدنيا كأمس طليقةً
ضُحى اليوم أم يُغدَى عليها فتُذبحُ؟
(ملتفتة إلى هيلانة وشرميون):
فيم هيلانةُ تبكـ
ـين وأنت شرميون
كفكفا الدمعَ فلا شدَّ
ة إلا وتهون
واعلما بنتيَّ أن الـ
ـبؤسَ والنعمى ديُون
(تركع أمام تمثال إيزيس)
اليومَ أقصرَ باطلي وضلالي
وخلت كأحلام الكرى آمالي
وصحوتُ من لَعب الحياة ولهوها
فوجدتُ للدنيا خُمَارَ زوال
وتلَّفتتْ عيني فلا بمواكبي
بصُرتْ ولا بكتائبي ورجالي
وطئتْ بساطي الحادثاتُ وأهرقتْ
كأسي وفضَّتْ سامري ونقالي
إيزيسُ ينبوع الحنان تعطَّفي
وتلفَّتي لضراعتي وسؤالي
أنت التي بكت الأحبَّةَ واشتكت
قبل الأرامل لوعَة الإرمال
إني وقعتُ على رحابك فارحمي
ذلَّ الملوك لمجدك المُتعالي
هل تأذنين بأن أعجِّل نُقْلتي
وأحُثَّ عن دار الشقاء رحالي
وعُلاكِ ما أدعُ الحياةَ جبانةً
أو ضيقَ ذَرْع أو قطيعةَ قالي
إني انتفعْتُ بعبقريِّ جمالها
وتمتعْت من عبقريِّ جمالي
وجمعتُ بين شعورها وعواطفي
وقَرَنْتُ رَحْبَ خيالها بخيالي
ووجدتُها قد خلَّدت أبطالَها
فبسطْتُ سلطاني على الأبطال
بنتُ الحياة أنا وتَشهَدُ سيرتي
ما كنتُ من أمي سوى تمثال
منها تناولتُ الرياءَ وراثةً
وأخذتُ كلَّ خديعة ومحال
وقسوْتُ قسوتَها ولنتُ كلينها
واقتستُ في صَدِّي بها ووصالي
ولربما رَشَدتْ فسرتُ برُشدها
وغَوَتْ فأغوتْني وضل ضلالي
ووجدتُها حبًّا يفيضُ ولذةً
فجعلتُ لذَّات الهوى أشغالي
يومي بأيامٍ لكثرة ما مشت
فيه الحياة وليلتي بليالي
ولقد لَقيت من الحياة صَبيَّةً
ما جل من بؤس ورقة حال
فخلِعتُ مُلكي طفلةً وشردتُ في
صدر الصبا ورأى المكارهَ آلي
شرعتْ عليَّ السَّوْطَ في كُتَّابها
واليومَ تَضربُني بدرس غالي
يا موتُ هل حَرَجٌ على مُستنجد
بك أن يُسابقَ واقعَ الآجال
يومي أعجِّلُهُ ولو لم أنتحرْ
للقيتُ يومًا ما له من تالي
***
يا موتُ أنت أحبُّ أسرًا فاسبني
لا تُعط روما والشيوخ عقالي
يا موتُ لا تُطْفئْ بشاشة هيكلي
واحفظْ ظواهرَ لمحتي وجلالي
يا موتُ طُفْ بالروح واسرقْها كما
سرق الكرى عينَ الخليِّ السالي
حتى أموتَ كما حَييتُ كأَنني
بيتُ الخيال ودُميةُ المثَّال
وكأَن إغماضَ الجفون تناعسٌ
وكأَن رقدتيَ اضطجاعُ دلال
سرْ بي إلى أنطونيو في نَضرتي
ورُواء جلبابي وزينة حالي
(تقوم إلى إحدى السلال فتكشف التين عن أفعى):
هَلُمِّي الآن مُنقذتي هَلُمِّي
وأهلًا بالخلاص وقد سعى لي
شَربتُ السم من فيك المُفدَّى
بسلطاني وزدتُ عليه مالي
على نابيْك من زُرق المنايا
شفاءُ النفس من سُود الليالي
وبعضُ السم ترْياقٌ لبعض
وقد يَشفى العُضالُ من العُضال
دعوْتُ الراحةَ الكبرى فلبتْ
فبُعدًا للحياة وللنِّضال
هَلُمِّي عانقي أفعى قصور
بها شوقٌ إلى أفعى التلال
سَطتْ روما على مُلكي ولَصَّتْ
جواهرَ أسرتي وحُليَّ آلي
فرُمتُ الموتَ لم أجبُنْ ولكن
لعل جلالهَ يَحمي جلالي
فلا تَمْشي على تاجي ولكن
على جسد ببطن الأرض بالي
وقد علم البريَّةُ أن تاجي
نَمتْه الشمسُ والأسرُ العوالي
يُطالبُني به وطنٌ عزيزٌ
وآباءٌ ودائعُهم غوالي
أأدخلُ في ثياب الذل روما
وأُعرَضُ كالسَّبيِّ على الرجال؟
وأُحدَج بالشماتة عن يميني
ويَعرض لي التهكمُ عن شمالي؟
وألقَى في النَّديِّ شيوخَ روما
مكانُ التاج من فَرْقَيَّ خالي؟
وأغشى السجن تاركةً ورائي
قصورَ العزِّ والغُرَفَ الحوالي؟
وتحكُم فيَّ روما وهي خَصمي
وتُسرفُ في العقوبة والنَّكال
يَراني في الحبائل مُترَفوها
وقد كان القياصرُ في حبالي
إذن غيرُ الملوك أبي وجَدِّي
وغَيرُ طرازهم عَمِّي وخالي
سأنزلُ غيرَ هائبة إذا ما
تلمَّظت المنيَّةُ للنزال
أموتُ كما حَييتُ لعرش مصرٍ
وأبذُلُ دُونه عرشَ الجمال
حياةُ الذلِّ تُدفَعُ بالمنايا
تَعاليْ حَيَّةَ الوادي تعالي
(تتناول الأفعى وتمهد لها من صدرها فتلدغها ثم ترميها إلى السلة)
يا ابنَتَيْ وُدِّي … هَلُمَّا …
زيِّناني … للمنيَّهْ
غلِّلاني … طَيِّباني …
بالأفاويهِ … الزكيهْ
ألبساني حُلَّةً … تُعْـ
ـجبُ أنطونيو … سنيهْ
من ثياب … كنتُ فيها
أتلقاه … صبيهْ
ناولاني التاج … تاجَ الشمـ
ـس … في مُلْك … البريهْ
وانثرا بين يديْ عر
شي … الرياحين البهيهْ
(تموت بين وصيفتيها)
شرميون (تتناول من إحدى السلال أفعى):
كلوبترا ويا لهفي
عليك يا كلوبترا
وصيفاتُك في الدنيا
وصيفاتُك في الأخرى
(وتمهد لها من صدرها فتلدغها وتموت)
هيلانة (تفعل ما فعلته شرميون):
كلوبترا ذهبت اليو
مَ بالدنيا كلوبترا
تعاليْ أيها الأفعَى
أريحيني أنا الأخرى
(يدخل أنوبيس وحابي)
أنوبيس:
انسلَّت المُهرةُ من قيدها
وأفلت الطيرُ من الصائد!
حابي:
هيلانَ، يا لهفا على الحبيبة
على الجمال وعلى الشبيبهْ
على الفتاة الحُرَّة النجيبهْ
(يتحسس جسمها)
يا لَلحياة ما تني دبيبا
أبي، تَأمَّلْ جسمَها الرطيبا
واسمعْ تَجدْ لقلبها وجيبا
أنوبيس:
حابي، نسيتَ حُقَّةَ
حابي:
هيهات أعصيك أبي هيهات
إن أنسَ أشياءَك أنسَ ذاتي!
(يخرج الحقة من جيبه)
خُذْها
أنوبيس:
بل اسكبْ في فم الفتاة
لعلها تصحو من السُّبات
(يشتغل حابي بإيقاظ هيلانة)
أنوبيس (على جثة كليوباترا):
بنتي رجوتُك للضحية والفدا
فوجدتُ عندك فوقَ ما أنا راجي
إن تُصبحي جسدًا فنفسُك حرةٌ
وعُلاك سالمةٌ وعرضُك ناجي
سيقولُ بعدك كلُّ جيل مُنصف
ذهبتْ ولكن في سبيل التاج
(ثم يلتفت إلى جثة شرميون):
وأنت أيضًا شرميونُ
مُتِّ ولكنْ ميتةً شريفهْ
ما أعظمَ الملكةَ والوصيفهْ!
حابي:
أدنُ أبي ألق النظرْ
يا لعجائب القدرْ!
أنوبيس:
أحدث ترياقي الأثرْ؟
حابي:
انظرْ أبي ترياقَك الـ
ـمحسن ماذا منحا؟
انظرْ فهذا مَلَكي
من رقدة الموت صحا
قد فتحَ العينيْن بعـ
ـد اليأس من أن تُفتَحا
وهذه أنفاسُه
رَيْحانُها قد نَفَحا
مولاي قد قَرَّبْت من
سعادتي ما نَزحا
أنت الذي رَددتَها
رُوحًا وكانت شَبَحا
يا قلبُ كيف لم تَطْر
عن الضلوع فرحا
هيلانة:
يا ويح لي! ويحَ ليهْ
هل صَدَقتْني عَينيهْ؟
حابي أفي الدنيا أنا؟
حابي:
بل أنت دنياي هنا
هيلانة:
منذا جنى عليَّهْ
حتى بُعثتُ حَيَّهْ؟
حابي:
أبي الذي شفاك يا مَلاكي
أنوبيس:
لا بل مَلاكُ الحب قد شفاك
وأدمُعُ الإخلاص من فتاك
هيلانة:
أبي لقد مَرَّ عليَّ الموتُ
وكنتُ من عذابه نَجَوْتُ
علامَ حُلْتَ بينه وبيني؟
الموتُ لا يُذاقُ مَرَّتَيْن
(ترى جثة الملكة وهي تتلفت)
رحماك آلهةَ الوادي ذهلتُ فلم
أذكرْ مَلاكًا وراء العرش مُضطجعا
بالأمس، لا، بل اليومَ التحقتُ به
صُرعتُ بالناقع الساري كما صُرعا
لقد رَحلنا عن الدنيا الغَرورِ معًا
ما لي رَجَعتُ إلى الدنيا وما رَجَعا
ليت الطبيبَ الذي داوى فأخرجني
إلى الحياة على الدنيا به طَلَعا
مليكتي، ربَّتي، صفحًا ومغفرةً
إن المُرُوءةَ كانت أن نموتَ معًا
الكاهن:
بُنيَّتي …
هيلانة:
صَهْ أبي،
الكاهن:
لا أنت واهمةٌ
فلستُما في مُلاقاة الرَّدَى شَرَعا
وقفتُما موقفًا في الخطب مختلفًا
لو جَرَّبْت فيه غيرَ الموت ما نفعا
حابي:
تعاليْ نَحْيَ في الحقْل
مع الطير كما تَحْيَا
هَلُمِّي الحبَّ هيلا
نةُ فالحبُّ هو الدنيا
أبي دونك باركْنا
وإن شئتَ فشاركْنا
أنوبيس:
إذا فارقتُ محرابي
فمن يبكي على مصرا؟
سأبقى ها هنا ابْنَيَّ
إلى أن أقضيَ العُمرا
هَلُمَّا ابنيَّ باسم اللـ
ـه سيرا وابنيا الوكْرا
هلما جنَّةَ الوادي
هلما طيبةَ الغَرَّا
لئن فرقنا الدهرُ
فقد تَجمعُنَا الذكرى
(يخرجان)
(يسمع صوت بوق)
أنوبيس:
البوق دَوَّى
قيصرُ أقبلْ
(يدخل حارس)
الحارس:
مولاي قيصر
(يتنحى عن الباب ويدخل قيصر وفي معيته الطبيب أولمبوس):
أنوبيس:
ما يَبتغي قيصرُ من أسيرتهْ؟
إن التي أعدَّها لزينتهْ
يَدخل روما وهي في كتيبتهْ
تَزيدُ في مَوكبه وقيمته
ماتتْ ولم تنزلْ على مشيئتهْ
بُورك في النيل وَفي عقيلتهْ
قيصر:
آلهةَ الرومان، ماذا أرى؟
امرأةٌ تَسخَرُ من قائدِ
قد أبطلَتْ كَيْدي على ضعفها
ولم تزلْ تَسْخَرُ بالكائد
في الجسد الحيِّ تمنَّيْتُها
لم أبغها في الجسد البائد
(يركع قيصر عند جثة كليوباترا)
أنوبيس (لنفسه):
الحادثُ العجيبُ
قيصرُ والطبيبُ
يَغدُرُها وعهدُه
ببابها قريبُ
أكتافيو:
عجيبٌ يا طبيبُ أرى قتيلًا
ولكن لا أرى أثَر الجراح!
أليست في الفنَاء أرفَّ لونًا
وأندَى من رياحين الصباح
فهل تدنو فتكشف كيف ماتتْ
أبِالسم الزُّعاف أم السلاح؟
(يقترب أولمبوس وينحني على صدر الملكة من الناحية التي رميت فيها الأفعى)
أولمبوس:
جبينٌ مُشرقُ الغُرَّهْ
ووجهٌ ضاحكٌ نَضْرَهْ
وعينان كأن المو
ت في جَفنَيْهما كَسْرَهْ
وهذا فمُها تبدو الـ
ـمنايا عنه مُفتَرَّهْ
ولكن قيصرُ ادنُ انظرْ
هنا السرُّ هنا العِبرهْ
فبين السَّحْر والنَّحْر
كمثل الخَدش من إبرهْ
مكانُ الناب من صلٍّ
شديد البأس والشِّرَّهْ
(تلدغه الأفعى)
إلهي، قيصري، آه
لقد مَسَّتْ يدي جَمْرَهْ
سرى السمُّ بأعضائي
وعَمَّتْ جسدي فَتْرهْ
وجاءت سَكْرَةُ الموت
فلا صَحو … من السَّكْرهْ
(ثم يسقط ميتًا)
أكتافيوس:
ويل النفوس مِنْ فُجاءات القدرْ!
وويحَ ألمبوس بالأفعى عَثر
أنوبيس (لنفسه):
قد وقع الحافرُ فيما قد حَفَر
قيصر:
وَداعًا كلوبَترا إلى يوم نلتقي
وتَنفُضُ عنها الهامدين المقابرُ
محا الموتُ أسبابَ العداوة بيننا
فلا الثأرُ ملْحاحٌ ولا الحقدُ ثائر
وما استحدثَت عند الكرام شَماتةً
صُرُوف المنايا والجُدودُ العواثر
ودَاعًا وإن نحن اقتتلنا وجَرَّدتْ
حُساميْهما أوطانُنا والعشَائر
تَحدَّيتني بالموت حتى قهرتني
وما لي سلطانٌ على الموت قاهر
ترفَّعت عن قَيْدي ومُتِّ عزيزةً
وأيدي المنايا للقيود كواسر
وأنت التي نازعت روما مكانَها
وجَرَّتْ بناديك القيودَ القياصر
لعبت بأنطونيو ويوليوسَ حقْبةً
كما جاء بالمسحور أو راح ساحر
وما أنا إلا سيفُ رومةَ باترًا
أصيبَ به سيفٌ لرومةَ باتر
زَجرتُ فلم أُسْمَعْ فقاتلتُ مكرَهًا
وفي الحرب إن لم تَرْدَع السِّلمُ زاجر
وأنطونيو صهري الكريم بمثله
يُطاولُ أنسابَ الملوك المُصاهر
وَداعًا عروسَ الشرق كلُّ ولاية
وإن هَزَّت الدنيا لها الموتُ آخر
(يخرج أكتافيوس وحاشيته وتزف التحايا له من الأبواق والحناجر خارج القصر)
أنوبيس:
أكثري أيها الذئاب عُواءً
وادَّعي في البلاد عزًّا وقهرا
أنشدي واهتفي وغَنِّي وضِجِّي
واسبحي في الدماء نابًا وظُفرا
لا وإيزيسَ ما تملَّكتِ إلا
واديًا من ضَيَاغم الغاب قَفرا
قَسَمًا ما فتحتُمُ مصرَ لكنْ
قد فَتَحْتُمُ بها لرومةَ قَبْرَا
0 تعليقات