ليس للمساء إخوة -۲- لـ وديع سعادة

مرحلة أولى

كيف يكون هذا الشوق
كضفدعٍ خارجَ بحيرته؟
كيف هذا النهارُ رمادٌ في السماء؟
وهذه العاصفة في الرأس كيف لا تحرّك غصنًا؟

I
ما فائدةُ الوثوب إلى الغابات
وإطعام الغزالة النحيلة
حين تسقط عصافيرُ الدهشة
كخشبةٍ من بناية قديمة؟
أنا النموُّ الاسودُ تحت الأبراج
والحيواناتُ الكونيّة ترعاني
لستُ الصبيُّ الذي يدخل
برجَ العائلةِ في المساء
أبحثُ عن نجمةٍ أقرأ تحتها حياتي
أرتقي سلّمَ الضوء
أهبُ ورقةَ نقدي الأخيرة
لليد المعروقة
فوق جسر القلب.

II
هؤلاء الّذين يتوقون العودة
وليس لهم قطار
ولا نجمة
ولا حتّى صرصار في طريقهم يغنّي،
الّذين كّرتْ كنزةُ أحلامهم
ولحياتِهم صوتُ ارتطامِ المرآة على الحجر،
مرّات كثيرة سيعرفون موتَ المسافات
ويكتشفون العالم
بلا طريق.

III
تغرقُ في بئرِ المحبّة اليابسة
سكران
ماذا تقول للمارّة كي تخطفَ مرفأ؟
شربتَ نهاركَ دفعةً واحدة
رقصنا في الساحة ولم تقدّم نشوتك
رفعْنا مياهَنا إلى حدودها
وأنتَ تفكّر في صحراء يدك
بعْها
قلنا لكَ بعْها وارفعْ وجهكَ لا رايةََ الحرّية
قلْ هذه شجرتي
وأنا أرغب في عريها
لكنّك حرّكتَ إبرةَ الألم
وأعدْتَ حياكةَ يأسنا جميعًا.

IV
الرغبة نقاءٌ مالح
مرايا عاريةُ الظهر
عشبةُ التجاويف
قريةُ ميّتة في فمي.

V
تقول القابلة القرويّة:
وُلدتَ في زاوية البيت
بين قمر النعاس والعيون المطفأة
كانت الأزهار صغيرة
الطريقُ عجوزًا
وشجرةُ الرحمة تهتزُّ في النهر
حيث الغصون والعصافير
ترى نفسَها مكسورة.

VI
العشقُ مَرَّةً أسقط الملاك
في وجهي
حمل أصابعه وخرج
إلى الموت
يربط عنقَه بوردة
وخرج من العمر حصان
أنهى سباق الرغبة.

VII
جلس المنظّرون والعشّاق والسكارى والأموات
يحيون ذكرى الأرض القديمة
هيكلُهم على كلس الجدار
حطامهم على المفارق
ينتظرون زهرة الخدر
من حجارة العيون.

VIII
نقّبوا عن ظلال رؤوسكم
وتفيّأوا
الزمن جفّف القلوب
ولا بئر غير عيوننا
ندفن فيها وجوهَ من نُحبّ.

IX
أيُّ زمن سيأتي
بقميص أبيض؟
أيّ درب ستأتي
ونلعب مع الأطفال؟
أيّ خروف
نطعمه أيدينا؟
أيّ حلم
وكلّنا على قارعة الطريق
نلملم انهيار الوجوه.

X
يصعدُ الليل إلى الحلم
ونحن نرسم غصنَ الشوق
يصعد النوم إلى الثمر
ونحن نوقظ زهر النشوة.
هكذا بخطوةٍ أولى
يُستنزف الحُبّ
وأصابعه الحمراء تلوّح
ولا ترى القتلى.

XI
ماذا على الّذين مثلي أن يفعلوا
وأصغرُ فراشة
هي أكثرُ دهشة؟
الدائرةُ نفسها
المشهد، النافذة، الوجه.
سأخرج فارغًا
حتى من قميص قلبي
وبرصاصةٍ وحيدة أطلُّ على الصمت
هذا الهدف المتراقص أبدًا.

XII
هناك مشروعُ قصيدة
ضفّة
أفرشُ عليها السمكَ الواجف في رأسي.
اذهبي
يا امرأة سوداء على بابي يا مراكب
اذهبي
أحلامي كافية لأغلق هذا الباب
وأنام
مياهي كافية
لأغرق.

XIII
يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر
إلى الغابة
الوترُ المشدود بين عينيَّ والأشجار
على وشك الانقصاف.
أيّتها الكلمات يا غابتي
يا شجرتي اليابسة في فمي
على طول الطريق سواقٍ وأزهار
حجارةٌ لمن تعبوا
شمسٌ للنهار قمرٌ للّيل
وليس على حروفك عصفورٌ يسلّي.
يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر
الأصواتُ أقفاص.

IVX
أودُّ أن أعلّق قلبي على جبيني
كما تعلّق الأمُ اسمَ طفلها على مريوله
أودُّ أن أكتب رغبتي على الثلج
وعلى رمل البحر محبّتي.
في العيون في العيون
الشمسُ تثلج.

***
مرحلة ثانية

ها هي الطريقُ تنكسر كعودٍ يابس
وعلى أعلى جبال القلب
تجمع الخرافُ البيضاءُ نفسَها
وتعود إلى الحظيرة.

I
قبالةَ البحر أو الجدار
أريدُ الدفاعَ عن نفسي
بكلّ الرعب
لا بالصراخ
لأنَّ الوقت مرَّ طويلاً
ولا أعرف
إذا الصراخُ لا يزال.

II
مهما بدا طاهرًا هذا الوجه
إنّه ملعب العائلة.
الذكرى ثلج
لا يُضمن الوقوفُ فوقه طويلاً
إرحلْ.

III
سأذهبُ إلى الغابة أقعدُ مع الحطّابين
وبفأس دهشتهم
أقطعُ أحلامي وألقيها في النار.
يقول الحطّابون:
اليابسُ يُقطع.

IV
إذا سقط نجم
علامةُ شؤم
إذا سقطتْ شجرة
موت
إذا سقطتَ في وجهي أيّها النورس
فلأنّي
أدرتُ غروبي صوب الشرق
ومضيتُ في مياهي.

V
أزقّةُ أيّامي مليئةٌ بالزجاج
ومثل صبيّ يركضُ عمري حافيًا في عمري.

VI
أحملُ ذهولي
مخترقًا جنونَ الحلقات
في وجهي تنزفُ حربةُ الأبديّة.
أنا نظيف
البياضُ يكسوني
أمشي على طريق أبيض
أقعد على كرسيّ أبيض
أحلامٌ ناصعة
نسيانٌ ناصع.

***
مرحلة ثالثة

نتسلّق ضحكاتنا
لأنّ صراخنا شاهقُ جدًا.

I
لم يَعُدْ في دمي غيرُ الكلمات واللون الأحمر
البسْ قناعَ الرحمة واطردْني
يشتاق صمتي غيرَ لهاثك.
ماذا جئتَ تفعل ماذا جئتَ تقول ماذا جئتَ تقطف
يا زارع اليباس كي يكلّم الفراغَ كالأبله؟
حديقتي أصغرُ من جنين
ليس فيها غيرُ ورقةِ السهو
نبتتْ في غيابك.

II
أنتم قميص المجاعة.
دلقتم محابر وجوهكم على أوّل النهار فاسودَّ عمرُنا القصير. غرقتْ أقدامُنا في الأسْوَدِ وصارت صالحةً للكتابة. بها وقّعنا على الطرقات أحصنة جديدة.
أوقفوا نسلَ الاحلام. ما عاد العالم يسع.
أسمعُ ضجيجًا هائلاً، قرقعةَ عظام، الأحلام ترفس نفسها، تنهق، تفترس، تروث.
أوقِفوا نسلَ الأحلام. كَثُرَ الروث وانبرتْ زهرةُ الأزمنة.
على صدر كلٍّ منكم زهرة الزمان.أحار كيف أسمّيكم.

III
سيّدتي في الفضاء الكئيب
لا تُرجعي وجهي إليَّ
لا تتدفّقي نحوي كالأنهار
لا تندلقي كالبراميل
الحرّيةُ نصفُ اشمئزازي
والرهينة نصفي الآخر
وكلُّ أولادي الموت.

IV
يا قاطعَ الطرق يا شرسًا يا مجنونًا يا حُبّي
دعْ ممرًّا لرحيلي
دعني بعيدًا مع ورق الشجر أستلقي
على حجر يمكنني أن أقعد
مع صرصار أستطيع أن أغنّي
لنملة أقرأُ قصائدي
في مِزَق ثوبي ثلاثُ ابتسامات من الفجر وثغرٌ كاملٌ للغروب
على رؤوس أصابعي قطيعٌ غريب
لا يعود من البراري.

V
أخرجُ إلى تسكّعي قاطعًا حدائق الوجوه
رائحةُ الصمتِ برتقالة
وشيخوخة الوعي قطارٌ سريع.
أيَّهُ لقاءُ الحزن أيَّهُ لقاءُ الحلمِ يا قطرات الطريق؟

VI
مرَّ الوردُ ابني الحبيب ورجع وقال:
خلّصني يا أزرقَ الأرض
يا أبيضَ الفراشة
المكان يؤنّث نفْسَه.

VII
اشتبكي معي يا حشائش الأيّام الأولى في رقصة الأيّام الأخيرة
في كلا عنقينا أشعَّةٌ مترمِّدة.

VIII
تقفُ في آخر صفّ المسافرين إلى النهار
وتُريدُ أن ترى نفسكَ العاشقَ الوحيد
اعترفْ أنَّ القطار انكسر
وأنّكَ وحيدٌ على الرصيف
شوقُك الحمّى برودةٌ كئيبة
وأسنانُكَ حين تبتسم لا تضيء
حتى فمَك.

IX
الأبراج المبلّلة بالضوء تطفو على كتفي
إنّه شروق سخيف
بدايةُ أوّل يوم في مصنع العالم
وجهي يقتله ظلُّه
على الشرفة.

X
قولوا أيَّ شيء للعصافير في شجرة التفاح كي ترحل
خبزٌ في أشواقها
يأسر خطواتي.

XI
إلى جاد وسيمون وغادة، وأنتَ
ما اسمكَ؟ لا أعرف
لكن ألم أرَ وجهكَ تحت شتاء آذار يذوب كحبّة سكّر وأنتَ تسرع؟
ومرَّةً قعدنا؟
كان الزغبُ ينبت في وجوهنا.
قالت أمّنا تطيرون غدًا. زقزقنا.
وها على الثلج نقعد نتأمّل أقدامنا الصغيرة.
ما هذا الواقع من فم السماء كأنه لنا؟
قالوا جاء يزيحُ الصخرَ يفتحُ الباب. انخفِضوا انخفضنا.
سمعنا ارتطامَ جسده. رأينا تفتُّحَ جراحه.
وقلتُ: لن أمسّ جرحك أبدًا لئلا يُقفل نبعُ الرغبة.
وضع جاد عينه في الماء صارت سمكة. سيمون عينُه في الفضاء غيمة. وعينُ غادة قطنٌ ينفشه الحزن.
كنّا التقينا. دخل البوّابُ أعلنَ انتهاءَ الزيارة.
كيف تصيرين هكذا مطرًا أحمر ينزل عليَّ في الشوارع؟
أمّي غزلتْ لي كنزةً بيضاء عملتْ لها جيوبًا للزبيب وعبّأتْها.
لبستُها وخطرتُ أمامكِ.
أبي مرّةً زار المدينة. ضيّفوه برتقالةً حملها إليَّ من بيروت في جيبه. اقتسمناها وركضنا في البساتين.
أبحثُ عن زبيبةٍ، حبّةِ قمحٍ، بذرةِ برتقالٍ أضعُها في منقادكِ وأنت في العش لا أجد.
كيف يصير أهل القرى من دون قمح هكذا؟
جاء الشتاء يمزج البرد بالذكرى
وها نحن لا نريد غيرَ غطاء.

إرسال تعليق

0 تعليقات