أساطير لـ رياض الصالح الحسين

1– نهر. نهر. نهر:

أكسّر بالحصى مصابيح عينيك
وأفترش صخرة العتمة
أحلم بأن يديّ نهاران
ورأسي شجرة ليمون
وجسدي مزرعة للعدس
نهر. نهر. نهر
نهر من القرنفل والعشاق والعصافير الشاردة
وصديقتي لؤلؤة قمحية مخبأة في تابوت
نهر. نهر. نهر
نهر من الرماد والقتلى والمدن المهزومة
وصديقتي تضع جبينها على الوسادة وتبكي
نهر. نهر. نهر
نهر من الغضب اليابس والقبضات الصدئة
وصديقتي تفرّ إليّ سربًا من الذعر
وتختلط بي.

***
2– النافذة والرصيف:

تدخل الشمس من النافذة كملكة
من النافذة يدخل الغبار كعنكبوت
حبيبتي تطلّ من النافذة
ومن النافذة أرقب شلاّلات النجوم
من النافذة تترجل رصاصة بمهابة
وتخترق جسدي بكبرياء
أتدلى من النافذة بعينين عشبيتين
وأقفز بارتياع في بحر الأرصفة.

***
3– زهرة بريّة لعيني نيرون:

أنا المقيّد المنتشر
أسطحة ذاكرتي تراب
أحمل لحبيبتي أقراط اللوز وأساور العنب الأسود
زهرة بريّة لعيني نيرون
سيّد الخراب والقصور الجائعة!
ومثلما الأفراح النارية تختلج على قيثارته اليتيمة،
أختلج على أوتار حبي
مشنوقًا بأوراق الزيزفون وغبار المدينة المتهدمة
افتحي لي بوابة النهر لأغتسل
اغلقي خلفي نافذة اليباب لأنام
امتلكي دهشتي وخطاي
قبل أن أصبح دمية محطمة
ادخلي فضاء قلبي
كوكبًا مائيًّا صغيرًا
ومزّقي رئتي بالقبلات
فأنا المنفتح شراعًا فوق مركبة الخذلان
أحمل لنيرون زهرة بريّة بيدي اليمنى
وباليسرى أقبض على جمجمة البحر المتفتتة
ومن شفتي تسيل ملكة الحزن والانكسار
وأمام مذبح الوقت
أعرّي أجيالي بغبطة
أغسلها بلفائف التبغ ومقصلة الكلمات
ليغتصبها هيكلي الجوعيّ قطعة قطعة.

***
4– كان وقتًا جميلًا:

لم يكن وجهها بيدرًا
حين بعثرني الوقتُ
قلتُ لها: أنت لي..
وأخذتُ رمادي من الشرقِ والغربِ
من جهةٍ صلبتني
ومن جهة أمسكتْ خطوتي قبل أن ألمسَ النهرَ
أعطيتها جسدي وبطاقةَ حبّ ملوّنةٍ
وبكيت قليلًا على صدرها الشجري
رحلتُ. وقفتُ:
ليس لي غير صوتي ونافذة وترابْ
ليس لي غير هذا الغبار الصغير
سيخنقني جسدي
الآن تأتين مقصلة ويباب
إقرع الكأسَ بالكأسِ
موعدنا جثتان
إقرع اليأسَ باليأسِ
مدّدني جبلًا في الطريق
فشاحنة أينعت في فمي:
وردة ومصابيح ذئبية
وجزيرة موت
ولا أنتهي..
كان وقتًا جميلًا جميلًا
ضفة ورمال، ومشنقة تتدلّى
وشاخصة (سيدي) لن تش
كانت الأرض عرسًا بسيطًا
وها جثّتي في يديّ كحبة توتْ
وبحارة ينشدون:
لقد كنت قنبلةً يا حبيبي
تفجرني، وتموتْ.

***
5– لوسيفورس يقشر برتقالة البحر:

أصعد النافذة المفتوحة على ثديي قروية ترضع الأرض
شفتاي مكبلتان بالسخام وتعب الصحراء
أصعد، حاملًا المدينة تحت إبطي
بيوتًا ملطخة بالقهر والابتسامات الباردة
أرى:
لو سيفورس يقشر برتقالة البحر
أنتحب بين يديه
لو سيفورس، اعطني سكينك وخذ جسدي
- لو سيفورس، اعطني قدميك وخذ ذاكرتي
الطافحة بالأسماك الجميلة الميتة
لو سيفورس، اهدني مسدسًا أثقب به
جمجمة الليل أو اهدني موتًا حقيقيًّا..
فلمّا أزل متوغلًا في نفق البكاء،
أترك أثرًا، زنبقة في صدر امرأة، وأموت.
ولمّا أزل أستلقي على أرصفة الدنيا،
أحلم كخروف بالحشائش والتبغ والجدران الخمسة
وفي الصباح أترك أثرًا، بقعة دم متجمدة،
وأموت.
الرسائل أيضًا
أدسّ فيها زهور اللوتس وجوعي
وأوزّعها على بريد العالم
فيرسلون لي في طرد مضمون قنبلة ناعمة
تنسفني، وأموت.
لو سيفورس..
هل رأيت الشمس وهي تتدلى من حبل مشنقة؟
لقد كانت أمي تحبها كثيرًا
وتطرز لها في الشتاء قميصًا من خيوط شجرة عينيها.
هل تعرف أين تختبئ الأقمار القديمة؟
مرّة فتحت تلميذة صندوقها الخشبي الصغير
الذي تضع فيه كتبها المصوّرة
وكنت أختلس النظر كقط ذكي
فرأيتها:
عشرة أقمار..
عشرة أقمار صغيرة لامعة!
صورة: لوسيفورس يأكل برتقالة البحر
صوت: لوسيفورس، أطعمني، فأنا جائع.

***
6– المهدورة:

تنبئني امرأة كبريتية
فمها وكر للخفافيش والأسلاك الشائكة:
زمنك المتقدم على قدمين من زجاج،
سينكسر قبل أن يصلك.
تنبئني امرأة طائشة:
- زمنك المنكسر يأتي إليك بلا أيام
محمّلًا بالتوابيت وبطاقات التعزية.
تنبئني امرأة تدخن الماريجوانا
في مقهى البحر المتوسط:
- زمنك الميت، مكتئبًا يسير في أزقة المدينة
يسأل عنك الأرصفة الرطبة
ويفتش في جيوب الشحاذين عن عنوانك المحترق.
ينبئني زمني:
- امرأة تخبئ في عينيها كلّ الأفراح
المهدورة والأعراس الممزقة..
قادمة من بين يديك،
فاستقبلها.
.........
مطر أشقر وفرس زرقاء
وجثتي في الشارع وحيدة
وما زلت أكتب العصافير على ورق الجدران
وأرسم تفاصيل حبيبتي الكئيبة
مدن من زهر النعناع
وقرى من نفايات المدينة
جثتي في الشارع وحيدة
وأنا أصرخ في بوق الريح:
أيها الزمن السيء، أيها الزمن اللعين
يا رغيفًا من حشرجات ووطاويط
ألم تر حبيبتي الكئيبة
سمراء. قمحية. مدمرة. بحر
ملفوفة بالأعشاب والغيوم الكتيمة
عيناها سمكتان ونهدها غزالة
وسلّم سترتها طويل
درجة أولى وساعتي رطبة
ماذا تطلب أنت؟
- زجاجة بيرة وصحنًا من الأحزان المقلية
قصائد مملحة بجوع الفقراء
وأشجارًا مبادة بالأسلحة الكيميائية!
تعلّم، إذن، كيف تحب العالم
تعلّم كيف تبتلعه.
درجة ثانية وسلّم سترتها طويل
لا تصعد هذا الوجع
قد تطلع من الحائط نسمة بحجم جبل
قد يخرج خرتيت من بطن خزانة محشوّة
بالثياب الفرنسية موديل
وربما يطل برأسه ديناصور رهيب
من كتاب يتحدث عن الحب والأزهار
إقرأ كتاب النار ولا تشتعل
دخّن لفائف قهرك الرخيصة
فالدرجة الأخيرة آتية
وسلّم سترتها طويل
ضمّد جراحك بالأرصفة ورسائل المساجين
فمعدن حبيبتك مزوّر
وأنت لم تتعلم فن الضحك في مدرسة
دريد لحام
ولم يعلمك أوفيد فن الحب
إنسان بسيط أنت
تريد أن تأكل وتتزوج وترقص!
جسد حبيبتك شمس
إذا اقتربت منها ستحترق
كفّا حبيبتك مدينتان
إذا دخلتهما ستصاب بالانفصام
شفتا حبيبتك رغيفان
إذا أكلتهما ستصاب بالتخمة
مطر أشقر وعيون زرقاء
وأنتِ ممددة على معطفي الممزق
المدينة نائمة ونحن وحيدان
وسندريلا في ردائها الطويل تطارد المذبحة.
أنا جائع جائع
كعصفور على صخرة نائية في بحر متسع
ولكني لا أريد أن أموت
أنا مقهور مقهور
كورقة صفراء لم تأخذها الريح في الخريف
ولكني لا أريد أن أسقط في الفراغ
أنا معذب معذب
مثل ديك بعنق مقطوع يركض في أزقة
خاوية ودمه لا يتساقط منه
أنتِ جميلة والمطر أشقر ونحن وحيدان
ولكن لا أريد لموتي أن يتسع
أيتها الرائعة الخاوية حتى من جسدي
أيتها البلاد المثقوبة كالخرز أو كالجراح
ها أنذا أعطيك نهرًا قبل أن أغتسل
فيه.!

إرسال تعليق

0 تعليقات