ذرِ النفسَ لا يودِ الأَسى بذَمائها
إذا ذكرتْ حينًا من الدهر ماضيا
أُنيطتْ به الويلاتُ حتى أَقمننا
عَلَى الخسفِ أَيامًا دَجَتْ وَلياليا
فَعَدِّ عن الذكرى التي تقرح الحشا
وَتهتك من خِدْرِ الجفونِ جواريا
وَحبَّر عَلَى نيلِ الأَماني تهانئًا
لأَخلافِ من فيهم أَجدتُ المرائيا
أَبَوا أن يساموا الذلَّ في عقرِ دارهم
فهبوا إلى الهيجا أُسودًا ضواريا
أضاحوا إِلى الداعي ببطنانِ (مكة)
وَلبوا عَلَى بذلِ النفوسِ المناديا
تقاضوا إِلى البتّار مَعْ شرِّ عصبةٍ
وَقدمًا تجيد الباتراتُ التقاضيا
بقيت أَميرَ العربِ للعرب عصمةً
وَدمتَ لهم من حادثِ الدهرِ واقيا
فلولاك بعد اللهِ ظلَّتْ بلادُنا
وَأَنفسُنا سَبْيًا لمن كان سابيا
لقد كنتُ قبل اليومِ للعرب ناعيًا
فأصبحتُ منذ اليوم بالعرب شاديا
وهاكَ الذي كانت دموعي تخطّه
وَينفثه صدري بهميَ جاويا:
ليبكِ فخار العرب من كان باكيا
فلم يبقِ من أَعلامِه الدهرُ باقيا
خبا ذلك النورُ الذي كان ساطعًا
وَفلَّ شبا السيفِ الذي كان ماضيا
وأقفر من أَحيائِه كلُّ آهلٍ
وَأضحتْ مغانيه طلولًا بواليا
وَمن أعظم البلوى بذلك أنْ أَتتْ
عَلَى القومِ أَحداث تُشيبُ النواصيا
أُحِلْت ذراهم واستبيح حماهمُ
وَسيموا هوانًا سادةً ومواليا
غدوا هدفًا من بعد عزٍ ومنعةٍ
ولا دافع يرميه من كان راميا
يساقون باسمِ الدين للموتِ عنوةً
وهل كان إلاّ منهمُ الدينُ ناشيا
فكم سيدٍ مَرَّتْ رواحلُ عمرِه
بستين عامًا واستزادتْ ثمانيا
تغصُّ لمرآه النواظرُ هيبةً
كأَن (أبا بكر) ببرديه جائيا
وأَبلج يستسقى الغمامُ بوجههِ
كريم إذا ما الجدبُ ألقى المراسيا
وأَروع قد كنّا بجنةِ رأْيه
نردُّ سيوفَ الخطبِ عنا نوابيا
غدوا طعمةَ الأجذاع تُبلي وجوهَهمْ
ونضرتَها هوجُ الرياحِ سوافيا
لَوَتْ منهمُ الأسبابُ أَسباب صلبهم
رؤوسًا من العلياءِ كانت دوانيا
وغلَّتْ أَياديهمْ كبُولٌ وطالما
ببسطتِها فكّوا أسيرًا وعانيا
مشوا للردى مستبشرين كأنهمْ
من الهيم عاينَّ الحياضَ صواديا
أَلا هَلْ أَتى شبهَ الجزيرةِ نعْيُهمْ
وَمَنْ كان (قيسيًّا) بها و (يمانيا)
أُولئك قومٌ لست تعدم منهمُ
عَلَى كل حالٍ ناصرًا أو مواسيا
يعز عليهمْ أَنْ رمى حادثُ الردى
بإِخوانهم والأقربين المراميا
أَراك أَجزتَ الحدَّ في الحزن فائتدْ
وفت عَلَى ندبِ الكرام البواكيا
فمن دون هذا خِضْرمُ الدمعِ نافدٌ
وَقلبُك مصدوعٌ وإِن كان قاسيا
فسلّ همومَ النفسِ عنكَ برحلةِ
تشاهدْ منارَ العربِ يا سعد عاليا
وبادرْ لذاك الركبِ تلف أَمامه
سراجًا إذا ما الليلُ عَسْعَسَ ساجيا
أَجزت دمشقَ الشام والراكب مظهرًا
فما بتَّ إلاّ في ذرى النبك ثاويا
وقلت لنضوٍ من رفاقيَ شأْنه
لقد كان في حملِ الصبابة شانيا
عَلى (النبك) قِفْ نبكِ الربوعَ فإِنها
علالة محزونٍ وَخيرٌ مداويا
وَسيارةٍ تغلي مراجلُ صدرِها
كأَن بها داءَ من البثِّ داويا
إذا صعَّدتْ أنفاسَها خلت والهًا
وأَنفاسُه منه بلغنَ التراقيا
أَقلَّتْ رحالي نحو (حمص) فخلتني
علوت بها وَفدًا من الريحِ سافيا
وَلما نزلنا حمص يمَّمتُ (خالدًا)
أُحيي به عهد الفتوحات زاهيا
أَخالد لا تيأَسْ فسيفُك لم يزلْ
بأَيدي بنيك العربِ يلمعُ فاريا
لئن فلَّتِ الأيامُ غربيه حقبةً
فقد أرهفوا حدَّيه بالدمِ جاريا
ليهنك أَنْ هبّوا معيدين مجدَهمْ
فقرَّ بهمْ عينًا بلغتَ الأمانيا
كذلك حييتُ (ابن ليلى) تحيةً
نشرتُ بها جسمًا تخدَّد فانيا
رعى الله (حمصًا) إنها خيرُ بلدة
وَحيّا الحيا منها الحمى والمغانيا
ترى من نبيها كلَّ بشٍ تخاله
من البشر ذا قربى وَخلًا مصافيا
وَلما قصدنا من (حماة) سبيلَها
علونا متونَ الصافناتِ عواديا
وفي الركبِ ميمونُ النقيبةِ أروعٌ
كفى بمحيَّاه إلى الركبِ هاديا
صليبُ قناةٍ دونها كلُّ غامزٍ
وَذو مرةٍ يعنو لها الدهر جائيا
ففي السلم مثل الأُم ترأَم طفلها
وَفي الحربِ مثل الليثِ يزأَر عاديا
أَقام عَلَى حكمِ المساواة أَمرَه
فأَضحى به جيدُ المساواة حاليا
فمن حكمِه (موسى) و (عيسى) و (أحمد)
وَمن هو من أتباعهمْ بات راضيا
وأدهمَ كالصبحِ المنيرِ جبينُه
وَتنظر في جثمانهِ الليل داجيا
جرى بي وَخيلُ الركبِ تعدو أمامه
فخلَّفها من غير جهدٍ وَرائيا
يجدون سيرًا زاجرين بخيلهم
ولن يدركوه من عنانيه ثانيا
هبطتُ به وادي (حماة) بسحرةٍ
وَكل جواد ظلَّ خلفيَ كابيا
هنالك غصنُ المجدِ فينانُ باسقٌ
وَما نورُه يومًا عَلَى الدهر زاويا
وَفي (حلب) لمّا نزلنا بطاحَها
شهدنا بمغناها نجومًا دراريا
فكل فتى مِنْ آلِ يعرب دائب
صباحَ مساءَ أَنْ ينالَ المعاليا
أَهاب بها قومي فلبَّتْ نداءَهمْ
وَدانَ من الأتراكِ مَنْ كان عاصيا
وَطيف (للمياءَ) العزيزةِ زارني
فشرَّدَ من نومي وَما كنت غافيا
بذلتُ له طيبَ الكرى علَّ عطفة
يعاونني فيها عَلَى ما عنانيا
فآب بنومي لا يصيخُ لشكوتي
وخلّى جراحَ القلبِ نَدْمى كماهيا
هيا طيفَ مَنْ كانتْ تكفكفُ مدمعي
وترثي زمان الكارثاتِ لحاليا
ألكني إليها بالسلام رسالة
تكون لديها إنْ قضيت وصاتيا
سقى (حلبَ) الشهباء عارضُ مزنةٍ
كعارضِ دمعي إِنْ ترقرق هاميا
برحتُ حماها ذاكرًا لعهودها
إلى بلدٍ ما عهدها كنت ناسيا
وَظلنا نجوبُ البيدَ شرقًا وَمغربا
وَنهبطُ أَوداءً وَنعلو روابيا
إِلى أَنْ بلغنا (بَعْلَبَكَّ) وَرفقتي
بهم لمغانيها من الشوقِ ما بيا
تحسّى بها عمرو بن كلثوم كأْسَه
ونحن انتشينا إِذْ جلونا الأَعاديا
وفي القلعةِ القوراءِ ذكرى وعبرةٌ
لمن وبمنْ سادوا القرونَ الخواليا
عرتني لِما شاهدتُ واللهِ دهشةٌ
جهلتُ يميني عندها من شماليا
فماذا عساني أَنْ أقول بوصفِها
وما سامعٌ منِّي كمن كان رائيا
وقفتُ حيالَ الهيكلِ الفخمِ برهةً
ترنُّ زواياه برجعِ كلاميا
وصعَّدتُ في آثارِ قوميَ زفرةً
أَلنتُ بها صمَّ الصفا والسواريا
وعدتُ إلى سيارتي مع صحابتي
فعادتْ تغذُّ السيرَ كالبرق ساريا
ولما تبينّا (دمشقَ) تهلَّلتْ
وجوهٌ عليها البشرُ أصبح باديا
فمن مستكفٍّ يستبينُ خليطَهُ
ومِنْ قائلٍ هذي وربّي صحايا
سلامٌ عَلَى وادي دمشق فإِنه
مواطنُ خلاّني ومهوى فؤاديا
0 تعليقات