أعارتك دنيا مسترد معارها لـ ابن حزم الأندلسي

أعارتك دنيا مسترد معارها
غضارة عيشٍ سوف يذوي اخضرارها

وهل يتمنى المحكم الرأي عيشةً
وقد حان من دهم المنايا مزارها

وكيف تلذ العين هجعة ساعةٍ
وقد طال فيما عانته اعتبارها

وكيف تقر النفس في دار نقلةٍ
قد استيقنت أن ليس فيها قرارها

وإني لها في الأرض خاطر فكرةٍ
ولم تدر بعد الموت أين محارها

أليس لها في السعي للفوز شاغل
أما في توقيها العذاب ازدجارها

فخابت نفوس قادها لهو ساعةٍ
إلى حر نارٍ ليس يطفي أوارها

لهاسائق حادٍ حثيث مبادر
إلى غير ما أحضى إليك مدارها

تراد لأمر وهي تطلب غيره
وتقصد وجهًا في سواه سفارها

أمسرعنة فيما يسوء قيامها
وقد أيقنت أن العذاب قصارها

تعطل مفروضًا وتغني بفضلةٍ
لقد شفها طغيانها واغترارها

إلى ما لها منه البلاء سكونها
وعما لها منه النجاح نفارها

وتعرض عن رب دعاها لرشدها
وتتبع دنيا جد عنها فرارها

فيا أيها المغرور بادر برجعةٍ
فللَه دار ليس تخمد نارها

ولا تتخير فانيًا دون خالدٍ
دليل على محض العقول اختيارها

أتعلم أن الحق فيما تركته
وتسلك سبلًا ليس يخفى عوارها

وتترك بيضاء المناهج ضلةً
لبهماء يؤذي الرجل فيها عتارها

تسر بلهو معقبٍ بندامةٍ
إذا ما انقضى لا ينقضي مستثارها

وتفنى الليالي والمسرات كلها
وتبقى تباعات الذنوب وعارها

فهل أنت يا مغبون مستيقظ فقد
تبين من سر الخطوب استتارها

فعجل إلى رضوان ربك واجتنب
نواهيه إذ قد تجلى منارها

يجد مرور الدهر عنك بلاعب
وتغري بدنيا ساء فيك سرارها

فكم أمةٍ قد غرها الدهر قبلنا
وهاتيك منها مقفرات ديارها

تذكر على ما قد مضى واعتبر به
فإن المذكي للعقول اعتبارها

تحامى ذراها كل باغٍ وطالبٍ
وكان ضمانًا في الأعادي انتصارها

توافت ببطر الأرض وأنشت شملها
وعاد إلى ذي ملكةٍ استعارها

وكم راقدٍ في غفلةٍ عن منيةٍ
مشمرةٍ في القصد وهو سعارها

ومظلمةٍ قد نالها متسلط
مدل بأيدٍ عند ذي العرش ثارها

أراك إذا حاولت دنياك ساعيًا
على أنها بادٍ إليك ازورارها

وفي طاعة الرحمن يقعدك الونى
وتبدي أناةً لا يصح اعتذارها

تحاذر إخوانًا ستفنى وتنقضي
وتنسى التي فرض عليك حذارها

كأني أرى منك التبرم ظاهرًا
مبينًا إذا الأقدار جل اضطرارها

هناك يقول المرء من لي بأعصر
مضت كان ملكا في يدي خيارها

تنبه ليوم قد أظلك ورده
عصيبٍ يوافي النفس فيها احتضارها

تبرًا فيه منك كل مخالطٍ
وأن من الآمال فيه انهيارها

فأودعت في ظلماء ضنكٍ مقرها
يلوح عليها للعيون اغبرارها

تنادي فلا تدري المنادي مفردًا
وقد حط عن وجه الحياة خمارها

تنادي إلى يومٍ شديدٍ مفزع
وساعة حشر ليس يخفى اشتهارها

إذا حشرت فيه الوحوش وجمعت
صحائفنا وانثال فينا انتشارها

وزينت الجنات فيه وأزلفت
وأذكي من نار الجحيم استعارها

وكورت الشمس المينرة بالضحى
وأسرع من زهر النجوم انكدارها

لقد جل أمر كان منه انتظامها
وقد حل أمر كان منه انتشارها

وسيرت الأجبال والأرض بدلت
وقد عطلت عن مالكيها عشارها

فإما لدارٍ ليس يفنى نعيمها
وأما لدارٍ لا يفك أسارها

بحضرة جبار رفيقٍ معاقب
فتحصى المعاصي كبرها وصغارها

ويندم يوم البعث جاني صغارها
وتهلك أهليها هناك كبارها

ستغبط أجساد وتحيا نفوسها
إذا ما استوى أسرارها وجهارها

إذا حفهم عفو الإله وفضله
وأسكنهم دارًا حلالًا عقارها

سيلحقهم أهل الفسوق إذا استوى
بحلية سبقٍ طرفها وحمارها

يفر بنو الدنيا بدنياهم التي
يظن على أهل الحظوظ اقتصارها

هي الأم خير البر فيها عقوقها
وليس بغير البذل يحمى ذمارها

فما نال منها الحظ إلا مهينها
وما الهلك إلا قربها واعتمارها

تهافت فيها طامع بعد طامعٍ
وقد بان للب الذكي اختبارها

تطامن لغمر الحادثات ولا تكن
لها ذا اعتمارٍ يجتنيك غمارها

وإياك أن تغتر منها بما ترى
فقد صح في العقل الجلي عيارها

رأيت ملوك الأرض يبغون عدةً
ولذة نفسٍ يستطاب اجترارها

وخلوا طريق القصد في مبتغاهم
لمتبعه الصفار جم صغارها

وأن التي يبغون نهج بقيةٍ
مكين لطلاب الخلاص اختصارها

هل العز إلا همة صح صونها
إذا صان همات الرجال انكسارها

وهل رابح إلا امرؤ متوكل
قنوع غنى النفس بادٍ وقارها

ويلقى ولاة الملك خوفًا وفكرة
تضيق بها ذرعًا ويغني اصطبارها

عيانًا نرى هذا ولكن سكرةً
أحاطت بنا ما أن يفيق خمارها

تدبر من الباني على الأرض سقفها
وفي علمها معمورها وقفارها

ومن يمسك الإجرام والأرض أمره
بلا عمدٍ يبنى عليه قرارها

ومن قدر التدبير فيها بحكمةٍ
فصح لديها ليلها ونهارها

ومن فثق الأمواه في صفح وجهها
فمنها يغذي حبها وثمارها

ومن صير الألوان في نور نبتها
فأشرق فيها وردها وبهارها

فمنهن مخضر يروق بصيصه
ومنهن ما يغشى اللحاظ احمرارها

ومن حفر الأنهار دون تكلفٍ
فثار من الصم الصلاب انفجارها

ومق رتب الشمس المينر ابيضاضها
غدوًا ويبدو بالعشي اصفرارها

ومن خلق الأفلاك فامتد جريها
وأحكمها حتى استقام مدارها

ومن إن المت بالعقول رزية
فليس إلى حي سواه افتقارها

أبان لنا الأيات في أنبيائه
فأمكن بعد العجز فيها اقتدارها

فأنطق أفواها بالفاظ حكمةٍ
وما حلها إثغارها واتغارها

وأبرز من صم الحجارة ناقةً
وأسمعهم في الحين منها خوارها

ليوقن أقوام وتكفر عصبةً
أتاها بأسباب الهلاك قدارها

وشق لموسى البحر دون تكلفٍ
وبان من الأمواج فيه انحسارها

وسلم من نار الأنو خليله
فلم يؤذه أحراقها واعترارها

ونجى من الطوفان نوحًا وقد هدت
به أمة أبدى الفسوق شرارها

ومكن داودًا بأيدٍ وابنه
فتعسيرها ملقىً له وبدارها

وذلل جبار البلاد لأمره
وعلم من طير السماء حوارها

وفضل بالقرآن أمة أحمدٍ
ومكن في أقصر البلاد مغارها

وشق له بدر السماء وخصه
بآيات حقٍ لا يخل معارها

وأنقذنا من كفر أربابنا به
وكان على قطب الهلاك منارها

فما بالنا لا نترك الجهل ويحنا
لنسلم من نار ترامى شرارها

إرسال تعليق

0 تعليقات