قف من الليل مصغيا والعباب (إلى البحر) لـ علي محمود طه

قِفْ مِن الليل مصغيًا والعبابِ
وتأملْ في المزبداتِ الغضابِ

صاعداتٍ تلوك في شِدقها الصخرَ
وترمي به صدورَ الشعابِ

هابطاتٍ تئنُّ في قبضة الريحِ وتُر
غي على الصخورِ الصلابِ

ذلك البحرُ: هل تشاهدُ فيه
غيرَ ليلٍ من وحشةٍ واكتئابِ؟

ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ
تترامى بالمائجِ الصخَّابِ

لا ترى تحتهنَّ غير وجود
من عبابٍ، وعالم من ضبابِ

***
أيها البحرُ، كيف تنجو من الليـ
ـلِ؟ وأين المنجَى بتلك الرحابِ

هوَ بحرٌ أطمُّ لجًّا، وأطغى
منك موجًا في جيئةٍ وذهابِ

أوَما تبصرُ الكواكبَ غرقَى
في دياجيه كاسفاتٍ خوابِي؟

وترى الأرضَ في نواحيه حيرى
تسألُ السحبَ عن وميض شهابِ

ويك، يا بحرُ، ما أنينك في الليـ
ـل أنينَ المروَّع الهيَّابِ؟

امضِ حتى ترى المدائنَ غرقَى
وترى الكونَ زخرةً من عُبابِ

امض عبْر السماءِ، واطغ على الأفـ
ـلاكِ، واغمرْ في الجوِّ مسرى العُقاب

ذاك، أو يهتكَ الظلامُ دياجيـ
ـه، وينضو ذاك السوادَ الكابي

وترى الشمس في مياهِكَ تُلقى
خالصَ التبر واللجين المذابِ

***
أقبلَ الفجرُ في شفوفٍ رقاقٍ
يتهادى في منظرٍ خلَّابِ

حُللٌ من وشائعِ النور زُهْرٌ
يتماوجن في حواشي السحابِ

وإذا الشَّاطئُ الضحوك تغنَّى
حوله الطير بالأغاني العذابِ

ونسيم الصباح يعبث بالغا
بِ ويَثني ذوائبَ الأعشابِ

ومن الشمس جمرة، في ثنايا الـ
موج، يذكو ضرامُها غَير خابِي

ومن البحر جانب مطمئنٌّ
قُزحيُّ الأديم غضُّ الإهاب

نزلت فيه تستحمُّ عذارى الـ
ـضوءِ من كل بضةٍ وكعابِ

عارياتٍ يسبحن في اليم لكنْ
لفَّها الرغو من رقيقِ الثيابِ

خفِراتٍ من الأشعة خودٍ
نسَّقتها أنامل الأربابِ

فإذا البحر يرقصُ الموج فيه
وإذا الطير صُدَّحٌ في الروابي

راقصاتِ الأمواج: عَلَّمْنَ قلبي
رقَصاتِ المغرِّدِ المطرابِ

وأفيضي عليه من سلسل الوحـ
ـي نميرًا كالجدول المنسابِ

واستثيري عواطفي ودعيني
أسمعِ البحرَ أغنيات الشبابِ

***
لي وراءَ الأمواج، يا بحرُ، قلبٌ
نازحُ الدار ما له من مآبِ

نزعته منِّي الليالي فأمسى
وهو مُلقًى في وحشة واغترابِ

ذكرياتٌ تدني القصيَّ ولكنْ
أين مني منازل الأحبابِ

أنا وحدي، هيمانُ في لجك الطا
مي، غريقٌ في حيرتي وارتيابِي

أرمق الشاطئَ البعيد بعينٍ
عكفت في الدجى على التسكابِ

فسواءٌ، في مسْمعي، من ذَرَاهُ
صدحةُ الطير أو نعيقُ الغرابِ

وسواءٌ، في العيْن، شارقةُ الفجـ
ـرِ أو الليلُ أسودُ الجلبابِ

بيد أني أحسُّ فيك شفاءً
من سقامي، ورحمةً من عذابِي

أنت مهد الميلادِ والموتِ يا بحـ
ـرُ ومثوى الهموم والأوصابِ

فأنا فيك أطرحُ الآن آلا
مي وعبءَ الحياة والأحقابِ

إرسال تعليق

0 تعليقات