أدنا المزار وقرت العينان؟ (الأجنحة المحترقة) لـ علي محمود طه

أدَنا المزارُ وقرَّت العينانِ؟
وفرغتما من لهفةٍ وحنانِ؟

وهززتما بالشوقِ كفَّ مُسَلِّمٍ
وهَفَتْ إلى تقبيله الشَّفتانِ؟

وحلا العناقُ على اللقاءِ، وأومأتْ
لكما الديارُ، فرفرفَ القلبانِ؟

وعلى الثغورِ الباسماتِ بشائرٌ
وعلى الوجوهِ المشرقاتِ أماني؟

وعلى سماءِ النيلِ من سِمَةِ الضُّحى
وَضَحٌ، ومن ثغريكما وَضَحَانِ؟

وعلى الضفَافِ الضاحكاتِ مزاهرٌ
وعلى السفين الراقصاتِ أغاني؟

يومٌ تَطَلَّعَتِ المُنى لصباحِه
وتحدَّثَتْ عنهُ بكلِّ لسانِ!

وسَرَى التخيُّلُ بالنفوسِ فهزَّها
مَرَحُ الطروبِ، وغبطةُ النشوانِ

والأفقُ مُربدُّ الأديمِ، وأنتما
فوق الرياح الهوجِ منطلقانِ

تتخايلانِ على السحابِ برفرفٍ
بلواءِ مصرَ مُظَلَّلٍ مزدانِ

تتطلعانِ إلى السَّديمِ كأنما
تتخيرانِ لها أعزَّ مكانِ

وتحدثانِ النجمَ عن أوصافِها
والنجمُ مأخوذٌ بما تصفانِ

علَّقتما بالناظرين خيالَها
شوقًا، وأجفانُ المنونِ رواني

هي خطرةٌ، أو نظرةٌ، ودرجتما
في جوفِ عاصفةٍ من النيرانِ

طاش الزمامُ فلا السحابُ مُقاربٌ
لكما ولا الجَبَلُ الأشمُّ مُداني

وهوى الجناحُ فلا الرياحُ خوافقٌ
فيه، ولا الأرواحُ طوع عِنانِ

سَدَّتْ طريقكما الحُتوفُ وأنتما
تتحرقانِ هوًى إلى الأوطانِ

ومشى الرَّدى بكما وتحتَ جناحه
جسمانِ بل قلبانِ محترقانِ!!

***
يا ملهميَّ الشعرَ، هذا موقفٌ
الشعرُ فيه فوق كلِّ بيانِ

لوددتُ لو أنِّي عرضتُ بناتهِ
في المهرجانِ نواثرَ الريحانِ

وعقدتُ من شعري ومن ريحانِها
إكليلَ غارٍ أو نظيمَ جُمانِ

أنا من يُغَنِّي بالمصارع في العُلا
ويَشيدُ بالآلام والأحزانِ

ماذا وراءَ الدمع من أمنيةِ
أوْ ما وراءَ النَّوحِ من نشدانِ؟

أصبحتُ ذا القلبِ الحديدِ، وإن أكُنْ
في الناسِ ذاك الشاعرَ الإنساني

ووهبتُ قلبي للخطارِ، فللهوى
شَطرٌ، وللعلياءِ شطرٌ ثاني

وعشقتُ موتَ الخالدين، وعِفتُ من
عمري حقارةَ كلِّ يومٍ فاني

لولا الضحايا الباذلونَ دماءَهُمْ
طوتِ الوجودَ غيابةُ النسيانِ

هذا الدمُ الغالي الذي أرخصتُم
هو في بناء المجدِ أولُ باني

تبنونَ للوطنِ الحياةَ وهكذا
تبني الحياةَ مصارع الشجعانِ!

مثَّلتما في الموتِ وحدةَ أمةٍ
ذاقت من التفريقِ كلَّ هوانِ

مسحَ الهلالُ دمَ الصليبِ وضمَّدَتْ
جُرْحَ الأهلَّةِ راحةُ الصلبانِ

إن كان في ساح الردى لكليكُما
مثلٌ، ففي ساحِ الفدا مَثَلانِ!

عذرًا «فرنسا» إن جزعتِ فإنه
قَدَرٌ، وما لكِ بالقضاءِ يدانِ

هزَّتك بالرَّوعات قبلَ مصابِنا
أممٌ ملَكنَ أعنَّةَ الطيرانِ

واسيتِ مصرَ فما هوى نجمٌ لها
إلَّا ومنك عليه صدرٌ حاني

حيِّي سمَاءَ الفرقدينِ وقدِّسي
من تربِك الغالي أعزَّ مكانِ

فهنا دمٌ روَّى ثراكِ، وها هنا
قلبانِ تحت الصخرِ يختلجانِ

يا أمةَ الشهداءِ أنتِ بثُكلهمْ
أدرى، وبالأحزانِ والأشجانِ

الغارُ أحقرُ أن يكلِّلَ هامَهمْ
ورءوسُهم أغلى من التيجانِ

لِغَدٍ صبَرْنَا للزمانِ، وفي غدٍ
نعفو ونغفرُ للزمان الجاني

ونمدُّ للأيام كفَّ مصافحٍ
يجزي المسيءَ إليه بالإحسانِ

وَنُدِلُّ فوقَ النيِّراتِ بموكبٍ
فيه الحِجَى والبأسُ يلتقيانِ

ونهزُّ أجنحةَ الحياةِ ونعتلي
بخفافهنَّ مناكبَ العقبانِ

وننصُّ رايةَ مصرَ، أنَّى تشتهي
مصرٌ، ويرضاهُ لها الهرمانِ

أقَبل سلاحَ الجوِّ، إنَّ عيوننا
للِقاكَ لم يغمضْ لها جفانِ

أقْبِل سلاحَ الجوِّ، إن قلوبنا
كادتْ تطيرُ إليكَ بالخفقانِ

رفرفْ على البلدِ الأمينِ وحيِّهِ
وانزلْ إلى الوادي، وطرْ بأمانِ

كن للسلامِ وقاءَه، ولواءَه
وشعاعَه الهادي على الأزمانِ

وإذا دعتكَ الحادثاتُ فلبِّها
بحميَّةِ المستقتِلِ المتفاني

***
ليضنَّ بالأعمارِ كلُّ معاجزٍ
وليخْشَ حربَ الدهرِ كلُّ جبانِ

لِيَثُر على القضبان كلُّ معذبٍ
وليحطمِ الأصفادَ كلُّ معاني

هذا الزمانُ الحرُّ ما لشعوبه
صبرٌ على الأصفادِ والقضبانِ

لكمُ الغدُ المرجوُّ فتيانَ الحمى
واليومَ يومكُمُ العظيمُ الشانِ

لا تثنينَّكُمُ المنايا، إنها
سرُّ البقاءِ وسُنَّةُ العمرانِ

كونوا من الفادينَ إن عزَّ الفدا
كم في الفداءِ من الخلودِ معاني

ولئن حُرمتمْ من متاعِ شبابكم
إنَّ النعيمَ يُنال بالحرمان

لِيَكُنْ لكمْ في كلِّ أفقٍ طائرٌ
ليَكُنْ لكمْ في كلِّ أرض باني

وليستخفَّ البحرَ من أسطولِكم
عَلَمٌ كنجم المدلجِ الحيرانِ

سيروا بهدْيِ الأحمرينِ ومهِّدوا
بهما سبيلَ المجدِ والسلطانِ

لم تبصِر الأممُ الحياةَ على سنًى
كالنار في شَفَقِ الدماءِ القاني!

إرسال تعليق

0 تعليقات